التطبيع السوري- أنقرة بين القانون الأميركي والمصالح التركية

المؤلف: صالحة علام11.16.2025
التطبيع السوري- أنقرة بين القانون الأميركي والمصالح التركية

في خضم المساعي الأمنية والعسكرية الحثيثة الرامية إلى إرساء دعائم آلية دبلوماسية ناجعة، قادرة على تضييق شقة الخلاف وتقريب وجهات النظر المتباينة، وتجاوز العقبات الجوهرية التي تعرقل مسيرة استئناف العلاقات بين أنقرة ودمشق، أُعلن عن موافقة مجلس النواب الأميركي بأغلبية كاسحة، مدعومة بتأييد الحزبين الديمقراطي والجمهوري، على مشروع قانون "مناهضة التطبيع مع نظام الأسد"، حيث حظي المشروع بتأييد 389 صوتًا، مقابل معارضة 32، وامتناع 10 أعضاء عن الإدلاء بأصواتهم.

مواجهة التطبيع

وعلى الرغم من التعلق الكبير الذي يعلقه العديد من المراقبين على مشروع القانون الأميركي الجديد، فإنه لا يتضمن أية بنود إلزامية تفرض قيودًا على دول العالم وتحظر عليها التعامل مع نظام الأسد، أو تفرض عقوبات رادعة على الدول التي تسلك هذا المسلك.

إلا أن جوهر هذا المقترح القانوني ينصبّ على منع المسؤولين الفدراليين داخل أراضي الولايات المتحدة الأميركية من الإقدام على أية خطوة من شأنها الاعتراف بحكومة الأسد، أو تهدف إلى تطبيع العلاقات مع أية حكومة سورية تترأسها شخصية الأسد.

كما يمنع أي مسؤول فدرالي من اتخاذ إجراء أو تخصيص أية مخصصات مالية تشير بصورة رسمية أو ضمنية إلى اعتراف الولايات المتحدة بنظام بشار الأسد أو حكومته، بالإضافة إلى أن بنود مشروع القانون تحظر على أي رئيس أميركي التفكير مجرد التفكير في الاعتراف بنظام بشار الأسد القائم.

وبذلك، لا يعدو هذا القانون كونه مجرد بادرة أميركية تهدف إلى إظهار الدعم الكامل للسياسة الأميركية إزاء مطالب المعارضة السورية، وتأكيد إصرارها على ضرورة تحقيق إصلاح سياسي جوهري، دون أن يترتب على ذلك أية فعالية حقيقية على أرض الواقع.

موقف أنقرة

وعلى الرغم من أن عملية إقرار مشروع القانون المذكور بصورة نهائية لا تزال تستلزم اجتياز سلسلة من المحطات التشريعية الأخرى قبل البدء بتطبيقه الفعلي، الأمر الذي قد يستغرق فترة زمنية مطولة قد تتجاوز العام، إلا أن الموافقة الصادرة عن مجلس النواب الأميركي أثارت جملة من التساؤلات المشروعة والمحورية.

تتمحور هذه التساؤلات في مجملها حول موقف أنقرة من هذا القانون، والتداعيات المحتملة لهذا الموقف على مساعيها الرامية إلى ترميم علاقاتها المتوترة مع الولايات المتحدة الأميركية، علاوة على تأثيره المباشر والبارز على مستقبل العلاقات التركية – السورية، ولا سيما في ظل سعي قوى المعارضة السورية جاهدة لعرقلة كافة مساعي التطبيع مع نظام الأسد، سواء تلك المتعلقة بالدول العربية عمومًا، أو بمسار علاقات دمشق مع أنقرة على وجه الخصوص.

وذلك بالنظر إلى كون تركيا الحاضنة الأكبر دوليًا للاجئين السوريين، حيث تستضيف على أراضيها ما يقارب الخمسة ملايين لاجئ، فضلاً عن أنها الدولة الأقرب جغرافيًا إلى الدولة السورية، وتربطها بها روابط تاريخية واجتماعية وثيقة ومتينة، الأمر الذي أفرز لديها العديد من الإشكاليات العويصة والمتشابكة المرتبطة بتطورات هذه القضية المحورية.

استقلالية القرار التركي

إن التغيرات الجذرية التي طرأت على مسارات السياسة الخارجية التركية في العقدين الأخيرين، وتأكيد تحررها وابتعادها عن نظام التبعية الذي طبع علاقاتها خلال عقود طويلة مضت، وتبنيها لنهج استقلالية القرار السيادي بما يخدم مصالحها الحيوية، كدولة إقليمية ذات ثقل سياسي مرموق، ودور مؤثر وفاعل في معالجة ملفات المنطقة، يشير بوضوح لا لبس فيه إلى أن موقفها من مشروع القانون المشار إليه لن يؤثر البتة على قرارها بالمضي قدمًا في طريق إعادة علاقاتها مع دمشق، قياسًا بحجم المكاسب الجمة المنتظر تحقيقها من هذا التوجه الاستراتيجي.

ذلك أن مصالح أنقرة الملحة في الوقت الراهن، والتي تتجسد في الحفاظ على أمنها القومي وتعزيزه، وتوسيع نطاق علاقاتها الاقتصادية والأمنية على المستوى الإقليمي، تعتبر المحرك الفعلي لقراراتها السياسية، وما تتخذه من خطوات عملية ملموسة بهدف الوصول إلى تحقيق هذه الغايات النبيلة، بصرف النظر عما إذا كان موقفها هذا يتماشى مع موقف الإدارة الأميركية أم يتعارض معه بشكل أو بآخر.

مواقف منفردة

والدليل القاطع على هذا التوجه الراسخ هو انفرادها بالتعامل مع الأزمة الأميركية – الإيرانية المعقدة، ورفضها الامتثال لتطبيق العقوبات الاقتصادية القاسية التي تم فرضها على طهران من جانب الدول الغربية والولايات المتحدة الأميركية، وهو عين الموقف الذي اتخذته منذ اندلاع شرارة الحرب الروسية – الأوكرانية، حيث أعلنت صراحة وبكل وضوح عدم التزامها بتطبيق العقوبات التي تم فرضها على روسيا، بل ووسعت نطاق التعاون المثمر معها على جميع المستويات الاقتصادية والعسكرية والأمنية وفي مجال الطاقة الحيوية.

إنهاء عزلة الأسد

إن التغيرات السياسية المتسارعة التي تهيمن حاليًا على علاقات وتحالفات دول المنطقة، تمثل الدافع الرئيس وراء تحول المواقف الإقليمية من النظام السوري وقوى المعارضة على حد سواء، بما في ذلك الموقف التركي الذي طرأ عليه تحول ملحوظ.

فإلى جانب تحقيق مصالحها السياسية والأمنية والاستراتيجية والاقتصادية مع دمشق، تدرك أنقرة تمام الإدراك أن استمرار خلافاتها العميقة مع نظام بشار الأسد، قد يعيق بشكل فعال زيادة تحسن علاقاتها مع الدول العربية الشقيقة، ورفع حجم التعاون الاقتصادي والتجاري معها، الذي يبدو أنه سيظل رهنًا بصورة أو بأخرى بمستوى تحسين علاقاتها مع دمشق، خاصة بعد أن استعادت علاقاتها الدبلوماسية مع جميع دول المنطقة ولم يتبق سوى دمشق، التي تتلقى دعمًا صريحًا وعلنيًا من جانب معظم الدول العربية الراغبة في طي صفحة الربيع العربي بكل ما حمله من مآسٍ وتداعيات سلبية.

لذا فإن فك عزلة نظام الأسد بات يتصدر سلم أولوياتها في المرحلة الراهنة، فبعد أن أدركت عن كثب صعوبة تغيير المسار السياسي السوري برمته، تحولت اليوم لدعم استمرار نظام بشار الأسد القائم، بل وتسعى جاهدة لتغيير سلوكه تجاه شعبه المنكوب، وتبذل جهودًا حثيثة ومضنية من أجل دعم مؤسسات دولته المتهالكة؛ بهدف إعادة الاستقرار المفقود إلى الداخل السوري المضطرب.

توافق تركي – عربي

وتتطابق رؤية المجموعة العربية مع رؤية أنقرة في ضرورة بذل المزيد من الجهود المخلصة للقضاء على الإرهاب وتنظيماته الإجرامية داخل الأراضي السورية، وإيجاد آلية منطقية وعقلانية يتم بموجبها حل الأزمة الإنسانية الكارثية التي يعانيها الشعب السوري الصابر، وإغلاق ملف اللاجئين المعقد، ووضع الأسس المتينة التي تضمن لهم عودة آمنة وكريمة إلى مدنهم وقراهم التي هجروا منها قسرًا، واسترداد ممتلكاتهم المسلوبة التي تمت مصادرتها ظلمًا، إلى جانب استعادة سيطرة مؤسسات الدولة الشرعية على جميع الأراضي السورية، وضبط الحدود المتراخية، وإخراج الجماعات المسلحة الغريبة منها، ومن ثم إنهاء التواجد الأجنبي غير المرغوب فيه.

ومن هذا المنطلق السامي يمكن إدراك المعنى الحقيقي للتصريح الذي أدلى به مؤخرًا هاكان فيدان وزير الخارجية التركية، والذي أكد فيه تركهم الباب مفتوحًا على مصراعيه لاستمرار الحوار البناء والمثمر مع دمشق وفقًا لتوجيهات الرئيس أردوغان.

تراخي الموقف الأميركي

ومن العوامل المحفزة التي من شأنها تشجيع تركيا على المضي قدمًا في طريق المصالحة الشاملة مع النظام السوري، وتجاهل مشروع القانون الأميركي الجديد، هو تعاطي الإدارة الأميركية نفسها مع الملف السوري الشائك على أرض الواقع، حيث وجهت جل اهتمامها ودعمها اللامحدود لفصيل قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في شرق سوريا؛ بحجة دعمه لها في حربها المعلنة ضد تنظيم الدولة الإرهابي، مع تجاهل تام وواضح لباقي قوى المعارضة السورية الوطنية الأخرى.

هذا، إلى جانب تقليص حجم دعمها العسكري المالي، والتخلي التدريجي عن التزاماتها الأمنية الراسخة في منطقة الشرق الأوسط الحيوية ، حتى وصل الأمر إلى عزمها وضع خطة متكاملة ومفصلة لسحب قواتها من الأماكن التي تتموضع فيها داخل الشمال السوري، مع غض الطرف المتعمد عن الخروقات والتجاوزات التي طالت تطبيق العقوبات الاقتصادية الصارمة المفروضة على النظام السوري، وتخفيفها هي نفسها بعض هذه القيود المشددة عنه إثر الزلزال المدمر الذي ضرب المنطقة في شهر فبراير/ شباط 2023، وتغاضيها الواضح عن تطبيق قانون "قيصر" بكل ما يترتب عليه من التزامات.

إن تراخي الموقف الأميركي بشكل ملحوظ، إلى جانب اتساع هوة الخلاف والانقسام بين فصائل المعارضة السورية المختلفة، وتبادل الاتهامات المتبادلة فيما بينهم، وتراجع حضورهم العسكري والسياسي الملحوظ، وتلاشي الآمال المعقودة بعد هذه السنوات الطويلة في قدرتهم على إحداث تغييرات حقيقية جوهرية ملموسة على الأرض يمكن الاعتماد عليها في تحديد السياسة الرشيدة التي يجب انتهاجها مع الملف السوري، دفع أنقرة لمراجعة موقفها الإستراتيجي، وإعادة النظر في خطابها الإعلامي تجاه النظام السوري، واتخاذ منحى مختلف في التعاطي معه؛ بحثًا عن مصالحها القومية العليا، مثلها في ذلك مثل الدول العربية الشقيقة.

 

 

 

 

 

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة